الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **
ثم في يوم السبت سادس عشره تواترت الأخبار أن الأمير بردبك جاوز مدينة غزة فندب السلطان الأمير تمرباي المهمندار والأمير جكم الظاهري أن يخرجا إليه ويأخذاه ويتوجها به إلى القدس الشريف بطالًا. ثم في يوم الأحد سابع عشر ربيع الآخر أضاف السلطان الأمير أزبك نائب الشام وخلع عليه كاملية بفرو سمور بمقلب سمور وهي خلعة السفر فسافر في بكرة يوم الاثنين ثامن عشره. وفي يوم الاثنين هذا قرىء تقليد السلطان الملك الظاهر يلباي بالسلطنة وخلع السلطان على الخليفة وكاتب السر والقضاة وعلى من له عادة بلبس الخلعة في مثل هذا اليوم. وأما أمر بردبك نائب الشام فإن السلطان لما أرسل تمرباي وجكم إلى ملاقاته وأخذه إلى القدس وسارا إلى جهته فبينما هم في أثناء الطريق بلغهم أنه توجه إلى جهة الديار المصرية من على البدوية ولم يجتز بمدينة قطيا وقيل إنه مر بقطيا لكنه فاتهم وأنه قد وصل إلى القاهرة فعادا من وقتهما فلما وصل بردبك إلى ظاهر القاهرة أرسل إلى خجداشه الأمير تمر والي القاهرة يعرفه بمكانه فعرف تمر السلطان بذلك فرسم السلطان في الحال للأمير أزدمر تمساح الظاهري أن يتوجه إليه ويأخذه إلى القدس بطالًا ففعل أزدمر ذلك. وقيل في مجيء بردبك غير هذا القول واللفظ مختلف والمعنى واحد. وفي يوم الثلاثاء تاسع عشره استقر الأمير جانبك الإسماعيلي المؤيدي المعروف بكوهية أحد مقدمي الألوف أمير حاج المحمل واستقر تنبك المعلم الأشرفي ثاني رأس نوبة النوب أمير الركب الأول. ثم استهل جمادى الأولى أوله الأحد والقالة موجودة بين الناس بركوب المماليك الأجلاب ولم يدر أحد صحة الخبر. غير أن الأمراء المؤيدية خجداشية السلطان امتنعوا في هذه الأيام من طلوع الخدمة مخافة من الأمير خيربك الدوادار الثاني وخجداشيته الأجلاب أن يقبضوا عليهم بالقصر السلطاني واتفقت المؤيدية في الباطن مع الأشرفية الكبار والأشرفية الصغار. كل ذلك والأمر خفي على الناس إلا السلطان فإنه يعلم بأمره بل هو المدبر لهم فيما يفعلونه في الباطن حسبما يأتي ذكره من الوقعة وهي الواقعة التي خلع فيها الملك الظاهر يلباي من السلطنة.
ولما كان عصر يوم الأربعاء رابع جمادى الأولى المقدم ذكره وطلعت الأمراء الألوف إلى القلعة ليبيتوا بالقصر على العادة امتنعت المؤيدية عن الطلوع بمن وافقهم ما خلا الأمير جانبك الإينالي الأشرفي المعروف بقلقسيز أمير مجلس وهو كبير الأشرفية الكبار يومئذ فإنه طلع إلى القلعة ووافق الظاهرية الكبار والظاهرية الصغار الأجلاب. فلما تكامل طلوع من طلع من الأمراء في عصر يوم الأربعاء المذكور امتنع الأمير يشبك الفقيه المؤيدي الدوادار الكبير وخجداشيته وهم: الأمير قاني بك المحمودي المؤيدي أمير سلاح ومغلباي طاز الأبو بكري المؤيدي وجانبك الإسماعيلي المؤيدي المعروف بكوهية وهؤلاء الأربعة مقدمو ألوف وجماعة أخر من خجداشيتهم من أمر الطبلخانات والعشرات أجلهم الأمير طوخ الزردكاش هو الذي حول غالب ما كان بزردخانات السلطان من آلات الحرب والنفوط وغير ذلك إلى بيت الأمير يشبك الدوادار وانضم عليهم جماعة كثيرة من أمراء العشرات من الأشرفية الكبار وخجداشيتهم أعيان الخاصكية وغيرهم بل غالب المماليك الأشرفية الكبار والأشرفية الصغار وجماعة كثيرة أيضًا من أمراء السيفية وأعيان خاصكيتهم فصاروا في عسكر كبير وجمع هائل إلى الغاية. لكن صار أمرهم لا ينتج في القتال لعدم من يقوم بأمرهم لأن يشبك الدوادار كان الملك الظاهر يلباي قد وعده عندما أملاه ما يفعله من شأن هذه الوقعة أنه ينزل إليه ومعه الظاهرية الكبار وفاته الحزم فإنه لم يحسب أنه يصير هو كالأسير في أيدي الأجلاب إذا حققوا وثوب الأمير يشبك وقتاله فصار يشبك بسبب ذلك كالمقيد عن القتال لما وقع القتال الآتي ذكره. وكان الملك الظاهر يلباي لما وافق يشبك الدوادار على ما فعله قد ضاقت حصيرته وتغلب مع خير بك والأجلاب وخاف إن شرع في القبض عليهم لا يتم له ذلك فرم هذه المرمة ليأخذ الثأر بيد غيره وأنهم إذا استفحل أمرهم يسألهم الملك الظاهر يلباي ما الغرض من ركوبهم فيقولون: غرضنا نزول الأجلاب من الأطباق وإبعاد خيربك وغيره من خجداشيته ويكون هذا القول عندما تنغلب الأجلاب فإذا أذعنوا بالنزل من الأطباق وخلت القلعة منهم فعل فيهم الملك الظاهر يلباي عند ذلك ما أراد. وكان هذا التدبير لا بأس به لو أنه نزل إليهم في أوائل الأمر واجتمع بهم أو طلعوا عنده وصاروا يدًا واحدة ففاته ذلك وأقام هو بالقلعة. وفهم خيربك والأجلاب أن ذلك كله مكيدة منه لأخذهم فاحتاطوا به واحتاجوا إلى الإذعان للظاهرية الكبار ومطاوعتهم على أنهم يخلعون يلباي من السلطنة ويولون أحدًا من كبار أمراء الظاهرية فوافقتهم الظاهرية على ذلك ومالوا إليهم. واستمالت الظاهرية أيضًا الأمير جانبك قلقسيز الأشرفي أمير مجلس فمال إليهم ووعدهم بممالأة خجداشيته الأشرفية إليهم وخذلان يشبك الدوادار فعند ذلك صار الملك الظاهر يلباي وحده أسيرًا في أيدي القلعيين فلما أصبحوا يوم الخميس خامس جمادى الأولى أعلن الأمير يشبك الفقيه الوثوب على الخشقدمية ولبسوا آلة الحرب وركب بمن معه من المؤيدية والأشرفية الكبار والأشرفية الصغار والسيفية ولبسوا آلة الحرب واجتمع عليهم خلائق من كل طائفة ومالت زعر الديار المصرية إليهم. وبلغ من بالقلعة أمرهم فخافوهم خوفا شديدًا ولبسوا هم أيضًا آلة الحرب ونزلوا بالسلطان الملك الظاهر يلباي إلى مقعد الإسطبل السلطاني المطل على الرميلة وشرعوا في قتال الأمير يشبك بمن معه في الأزقة والشوارع بالصليبية وهم لا يعلمون حقيقة أمر يشبك ولم يقع بين الأجلاب والظاهرية الاتفاق المذكور إلى الآن فإن الاتفاق بما ذكرناه لم يقع بين الأجلاب والظاهرية بالقلعة إلا في آخر يوم الخميس وكذلك الاحتراز على السلطان لم يقع إلا في آخر يوم الخميس. وأما أول نهار الخميس ما كانت القلعيون إلا كالحيارى ولما وقع القتال بين أصحاب يشبك وبين القلعيين تقاعد يشبك عن القتال ولم يركب بنفسه البتة بل صار يترقب نزول السلطان إليه هذا والقتال واقع بين الفريقين بشوارع الصليبية من أول النهار إلى آخره وقتل بين الفريقين جماعة كثيرة. فلما رأى الناس تقاعد يشبك بنفسه عن القتال ظنوا أن ذلك عجز منه عن مقاومة القلعيين فنفر لذلك عنه خلائق ووافق ذلك اتفاق الظاهرية الكبار مع الأجلاب بالقلعة. وأصبح يوم الجمعة سادس جمادى الأولى والقتال عمال بين الفريقين بشارع الصليبية من أول النهار إلى آخره. فلما مالت الأشرفية الكبار إلى القلعيين وفارقت يشبك خارت طباع الأشرفية الصغار ومالوا أيضًا للقلعيين وكانت القلعيون استمالتهم أيضًا فما أمسى الليل إلا ويشبك الدوادار بقي وحده مع خجداشيته المؤيدية لا غير. فلما رأى أمره آل إلى ذلك قام من وقته واختفى وكذلك فعل غالب خجداشيته المؤيدية لا غير. وأما الملك الظاهر يلباي فإنه لما نزل إلى المقعد بالإسطبل السلطاني في باكر يوم الخميس وشرع القتال بين القلعيين وبين يشبك وأصحابه كان حينئذ إلى ذلك الوقت في عز السلطان ولم يظهر إلى ذلك الوقت أن الذي قعله يشبك كان صادرًا عنه وبتدبيره. فلما فهموا ذلك وأبرموا أمرهم مع الظاهرية الكبار حسبما ذكرناه في أول الكلام أخذوا في مقته والازدراء به والتلويح له بما يكره بل ربما صرح له ذلك بعضهم في الوجه. وطال هذا الأمر والحصر عليه يومي الخميس والجمعة وليس له فيها إلا الجلوس على المدورة والأتابك تمربغا جالس بين يديه وقد رشح للسلطنة عوضه وهو يعرف هذا بالقرائن لأن الذي بقي يطلع إلى القلعة من الطوائف طائعًا يبوس له الأرض ثم يقبل يد الأتابك تمربغا. هذا والأمير قايتباي المحمودي رأس نوبة النوب والأمير جانبك قلقسيز أمير مجلس بمن معهم من خجداشيتهم الظاهرية والأشرفية ركاب على خيولهم لإرسال الأمداد لقتال يشبك الدوادار. فلما جاء الليل ليلة السبت أدخل يلباي إلى مبيت الحراقة وبات به على هيئة عجيبة إلى أن أصبح النهار وأخذوه وطلعوا به إلى القصر الأبلق وحبسوه في المخبأة التي تحت الخرجة بعد أن طلعوا به ماشيًا على هيئة الخلع من السلطنة وأخذوا الناس في سلطنة الملك الظاهر تمربغا وزال ملك يلباي هذا كأنه لم يكن فسبحان من لا يزول ملكه. وكانت مدة ملكه شهرين إلا أربعة أيام ليس له فيها إلا مجرد الاسم فقط. ولم نعلم أحدًا من أكابر ملوك الترك في السن خاصة من مسه الرق خلع من السلطنة في أقل من مدة يلباي هذا وبعده الملك المظفر بيبرس الجاشنكير فإن مدة بيبرس أيضًا كانت سنة تنقص ثلاثة وعشرين يومًا ثم الملك العادل كتبغا المنصوري كانت مدة سلطنته سنتين وسبعة عشر يومًا وأما الملك الظاهر برقوق فإنه خلع بعد سلطنته بنحو سبع سنين ثم أعيد. ومع هذه المدة اليسيرة كانت أيامه أعني الملك الظاهر يلباي أشر الأيام وأقبحها. في أيامه زادت الأجلاب في الفساد وضيقت السبل وعظم قطع الطرقات على المسافرين مصرًا وشامًا. وما برحت الفتنة في أيامه قائمة في الأرياف قبليها وبحريها وتوقفت أحوال الناس لا سيما الواردين من الأقطار وزادت الأسعار في جميع المأكولات وضاعت الحقوق وظلم الناس بعضهم بعضًا وصار في أيامه كل مفعول جائزًا وما ذلك إلا لعدم معرفته وسوء سيرته وضعفه عن تدبير الأمور وبت القضايا وتنفيذ أحوال الدولة وقلة عقله فإنه كان في القديم لا يعرف إلا بيلباي تلي أي يلباي المجنون فهذه كانت شهرته قديمًا وحديثًا في أيام شبيبته فما بالك به وقد شاخ وكبرسنه وذهل عقله وقل نظره وسمعه. وقد حكى الأمير برسباي قرا الخازندار الظاهري أنه لما أخذه من مخبأة القصر الأبلق وتوجه به إلى البحرة ليحبس بها فاجتاز به من طريق الحريم السلطاني أنه عيي في الطريق وجلس ليستريح ثم سأل الأمير برسباي المذكور: " إلى أين أروح " فقال له: " إلى البحرة يا مولانا السلطان معزوزًا مكرمًا " فقال: " والله ما أنا سلطان! أنا أمير! وما كنت أفعل بالسلطنة وقد كبر سني وذهل عقلي وقل نظري وسمعي! بالله سلم على السلطان وقل له إني لست بسلطان وسله أن يرسلني إلى ثغر دمياط أو موضع آخر غير حبس فأكون فيه إلى أن أموت وأنا مأمون العاقبة لأني ما عرفت أدبر المملكة وأنا مولى سلطانًا فكيف يقع مني ما يكرهه السلطان! ". ثم بكى أولى وثانية. قال برسباي: فشرعت أزيد في تعظيمه وأسليه وأعده بكل خير ". والمقصود من هذه الحكاية اعترافه بالعجز عن القيام بأمور المملكة. وبالجملة كانت سلطتنته غلطة من غلطات الدهر. ودام الملك الظاهر يلباي بالبحرة إلى ليلة الثلاثاء عاشر جمادى الأولى من سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة فحمل إلى سجن الإسكندرية في بحر النيل ومسفره الأمير قانصوه اليحياوي الظاهري المستقر في نيابة الإسكندرية بعد عزل كسباي المؤيدي وتوجهه إلى دمياط بطالًا. فحبس الملك الظاهر يلباي ببعض أبراج الإسكندرية إلى أن توفي بحبسه من البرج بإسكندرية في ليلة الاثنين مستهل ربيع الأول من سنة ثلاث وسبعين وثمانمائة وقد جاوز السبعين من العمر. وكان ملكًا ضخمًا سليم الباطن مع قلة معرفته بأمور المملكة بل بغالب الأمور أميًا لا يحسن الكتابة ولا القراءة ولا الكلام العرفي إلا بمشقة. وكان في ابتداء أمره يعرف بيلباي تلي أي مجنون. وكان عديم التجمل في ملبسه ومركبه ومماليكه وسماطه مشهورًا بالبخر والشح. نالته السعادة في ابتداء أمره إلى يوم تسلطن. تنقل في أوائل أمره من منزلة سنية إلى منزلة أخرى إلى يوم تسلطن فلما تسلطن كان ذلك نهاية سعده. وأخذ أمره من يوم جلس على تخت الملك في إدبار واعتراه الصمت والسكات وعجز عن تنفيذ الأمور وظهر عليه ذلك بحيث إنه علمه منه كل أحد وصارت أمور المملكة جميعها معذوقة بالأمير خيربك الدوادار وصار هو في السلطنة حسًا والمعنى خيربك وكل أمر لا يبته خيربك المذكور فهو موقوف لا يقضى. وعلم منه ذلك كل أحد ولهجت العوام عنه بقولهم: " أيش كنت أنا قل له " يعنون بذلك أنه إذا قدمت له مظلمة أو قصة بأمر من الأمور يقول لهم: " قولوا لخيربك " وأشياء من هذا النمط يطول شرحها ذكرنا غالبها في تاريخنا " الحوادث " مفصلة كل واقعة في وقتها. وبالجملة إنه كان رجلًا ساكنًا غير أهل للسلطنة رحمه الله تعالى وعفا عنه. سلطنة الظاهر أبي سعيد تمربغا الظاهري وهو السلطان الذي تكمل به عدة أربعين ملكًا من ملوك الترك وأولادهم بالديار المصرية والثاني من الأورام إذا لم يكن الملك المعز أيبك التركماني من الروم والملك المنصور لاجين المنصوري فإن كانا من الأورام فيكون الملك الظاهر تمربغا هذا الرابع منهم. وكان وقت سلطنته باكر نهار السبت سابع جمادى الأولى من سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة الموافق لثامن كيهك بعد أن اتفق جميع أكابر الأمراء من سائر الطوائف على سلطنته. وقد جلس بصدر المقعد بالإسطبل السلطاني المعروف بالحراقة وحضر الخليفة المستنجد بالله أبو المظفر يوسف والقاضي الشافعي والقاضي الحنفي وتخلف المالكي لتوعكه والحنبلي لإبطائه وحضر غالب أرباب الدولة والأعيان وبايعوه بالسلطنة. فقام من وقته ودخل مبيت الحراقة ولبس خلعة السلطنة السواد الخليفتي. ثم خرج من المبيت المذكور وركب فرس النوبة من سلم الحراقة بأبهة الملك وركب الخليفة أمامه ومشت أكابر الأمراء بين يديه وجميع العسكر وحمل السنجق السلطاني على رأسه الأمير قايتباي المحمودي رأس نوبة النوب ولم تحمل القبة والطير على رأسه فإنهم لم يجدوها في الزردخاناه وكانت أخذت فيما أخذ يوم الوقعة لما نقل طوخ الزردكاش ما في الزردخاناه فجعلوا السنجق عوضًا عن القبة والطير. وسار الملك الظاهر تمربغا في موكب السلطنة إلى أن طلع من باب سر القصر السلطاني وجلس على تخت الملك وقبلت الأمراء الأرض بين يديه وخلع على قايتباي رأس نوب النوب باستقراره أتابك العساكر عوضًا عن نفسه ولقب بالملك الظاهر أبي سعيد تمربغا. وهذا ثالث سلطان لقب بالملك الظاهر واحدًا بعد واحد لم يكن بينهم أحد ولم يقع ذلك في دولة من الدول بسائر الأقطار. ودقت البشائر ونودي باسمه بشوارع القاهرة ومصر وكان حين سلطنته الثانية من النهار والساعة للمشتري والطالع الجدي وزحل. وتم أمر الملك الظاهر في الملك وزالت دولة الملك الظاهر يلباي كأنها لم تكن. وطلع الأعيان لتهنئته أفواجًا وسر الناس بسلطنته سرورًا زائدًا تشارك فيه الخاص والعام قاطبة لكونه أهلًا للسلطنة بلا مدافعة. فإننا لا نعلم في ملوك مصر في الدولة التركية أفضل منه ولا أجمع للفنون والفضائل مع علمي بمن ولي مصر قديمًا وحديثًا كما مر ذكره في هذا الكتاب من يوم افتتحها عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى يوم تاريخه ولو شئت لقلت: ولا من بني أيوب مع علمي محاسن السلطان صلاح الدين السعيد الشهيد وما له من اليد البيضاء في الإسلام والمواقف العظيمة والفتوحات الجليلة والهمم العالية أسكنه الله الجنة بمنه وكرمه. غير أن الملك الظاهر تمربغا هذا في نوع تحصيل الفنون والفضائل أجمع من الكل فإنه يصنع القوس بيده وكذلك النشاب ثم يرمي بهما رميًا لايكاد يشاركه فيه أحد شرقًا ولا غربًا. انتهت إليه رئاسة الرمي في زمانه وله مع هذا اليد الطولى في فن الرمح وتعليمه وكذلك البرجاس وسوق المحمل وتعبئة العساكر. وأما فن اللجام ومعرفته والمهماز وأنواع الضرب به فلا يجارى فيهما ويعرف فن الضرب بالسيف. وأما فن الدبوس فهو فيه أيضًا أستاذ مفتن بل تلامذته فيه أعيان الدنيا هذا مع معرفة الفقه على مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه معرفة جيدة كثير الاستحضار لفروع المذاهب وغيرها ثم مشاركة كبيرة في التاريخ والشعر والأدب والمحاضرة الحسنة والمذاكرة الحلوة مع عقل تام وتؤدة في كلامه ولفظه غير فحاش ولا سباب. وكان فيه أولًا في مبدأ أمره بعيض شمم وتعاظم فلما نقل إلى المناصب الجليلة تغير عن ذلك كله لاسيما لما تسلطن صار كالماء الزلال وأظهر من الحشمة والأدب والاتضاع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت وبقي يقوم لغالب من يأتيه من أصاغر طلبة العلم ذهابًا وإيابًا ويجل العلماء والفقراء وسلك مع الناس مسالك استجلب بها قلوب الخاص والعام. ولما دام جلوسه يومه كله بالقصر السلطاني جلوسًا عامًا لتهنئة الناس وهنأه الناس على قدر منازلهم فصار يلقى كل من دخل إليه بالبشاشة والإكرام وحسن الرد بلسان فصيح مع تؤدة ورئاسة وإنصاف فتزايد سرور الناس به أضعاف مسرتهم أولًا. وبالله أقسم أني لم أر فيما رأيت أطلق وجهًا ولا أحسن عبارةً ولا أحشم مجلسًا في ملوك مصر منه. ولما كان عصر نهار السبت المذكور أخذ الأمير قاني بك المحمودي المؤيدي أمير سلاح من اختفائه ببيت الشيخ سيف الدين الحنفي فقيد وحبس بعد أن نهبت العامة بيته وأخذت أمواله من غير إذن السلطان ولا إذن أحد من أرباب الدولة بل بأمر الغوغاء والسواد الأعظم يوم الوقعة عند انهزام يشبك الفقيه الدوادار واختفائه. وكان هذا المسكين جميع ماله من المال والسكر والقنود والأعسال والقماش في داره فنهب ذلك جميعه وما ذاك إلا لصدق الخبر: " بشر مال البخيل بحادث أو وارث " وكذلك العامة والغوغاء في بيت الأمير يشبك الفقيه الدوادار ولكن ما أخذ من بيت قاني بك من المتاع والمال أكثر. وفيه شفع الأمير قايتباي المحمودي في الأمير مغلباي طاز المؤيدي فقبل السلطان شفاعته ورسم له بالتوجه إلى دمياط بطالًا. وفيه رسم السلطان بإطلاق الملك المؤيد أحمد ابن السلطان الملك الأشرف إينال من حبس الإسكندرية ورسم أن يسكن في الإسكندرية في أي بيت شاء وأنه يحضر صلاة الجمعة راكبًا وأرسل إليه فرسًا بقماش ذهب. ثم رسم السلطان أيضًا للملك المنصور عثمان ابن الملك الظاهر جقمق بفرس بقماش ذهب وخلعة عظيمة ورسم له أن يركب ويخرج من أي باب شاء من أبواب الإسكندرية وأنه يتوجه حيث أراد من غير مانع يمنعه من ذلك. قلت: وفعل الملك الظاهر تمربغا هذا مع الملك المنصور عثمان كان من أعظم المعروف فإنه ابن أستاذه وغرس نعمة والده. وفيه أيضًا رسم السلطان بإطلاق الأمير قرقماس أمير سلاح ورفيقيه قلمطاي وأرغون شاه الأشرفيين من سجن الإسكندرية وكتب أيضًا بإحضار دولات باي النجمي وتمراز الأشرفيين من ثغر دمياط. وكتب أيضًا عدة مراسيم إلى البلاد الشامية والأقطار الحجازية بإطلاق من بها من المحابيس الأشرفية وغيرهم ومجيء البطالين. وفيه رسم السلطان بأن كل من كانت له جامكية في بيت السلطان من المماليك الإينالية الأشرفية وقطعت قبل تاريخه تعاد إليه من غير مشورة فعم الناس السرور بهذه الأشياء من وجوه كثيرة وتباشرت الناس بيمن سلطنته. قلت: وقبل أن نشرع في ذكر حوادث السلطان نذكر قبل ذلك التعريف به ثم نشرع في ذكر حوادثه فنقول: أصل الملك الظاهر تمربغا هذا رومي الجنس من قبيلة أرنؤوط وجلبه بعض التجار في صغره إلى البلاد الشامية في حدود سنة أربع وعشرين وثمانمائة فاشتراه الأمير شاهين الزردكاش نائب طرابلس كان. ثم نقل إلى ملك غيره إلى أن ملكه الملك الظاهر جقمق وهو يوم ذاك الأمير آخور الكبير فرباه الملك الظاهر وأدبه وأعتقه وجعله من جملة مماليكه الخواص به. ودام على ذلك إلى أن تسلطن فقربه وأدناه وجعله خاصكيًا سلاحدارًا مدة ثم جعله خازندارًا. ثم أمره في أواخر سنة ست وأربعين وثمانمائة إمرة عشرة عوضًا عن آقبردي الأمير آخور الأشرفي. واستمر على ذلك مدة طويلة وهو معدود يوم ذاك من خواص الملك إلى أن نقله إلى الدوادارية الثانية عوضًا عن دولات باي المحمودي المؤيدي بحكم انتقاله إلى تقدمة ألف فباشر تمربغا هذا الدوادارية الثانية بحرمة وعظمة زائدة ونالته السعادة وعظم في الدولة وشاع اسمه في الأقطار وبعد صيته وقصدته أرباب الحوائج من البلاد والأقطار وصار أمر المملكة معذوقًا به والدوادار الكبير بالنسبة إليه في الحرمة ونفوذ الكلمة كآحاد الدوادارية الصغار الأجناد. واستمر على ذلك إلى أن مات الملك الظاهر جقمق رحمه الله تعالى وتسلطن بعده ولده الملك المنصور عثمان فصار تمربغا عند ذلك هو مدبر المملكة وصاحب عقدها وحلها والملك المنصور معه حس في الملك والمعنى هو لا سيما لما أمسك الملك المنصور الأمير دولات باي الدوادار والأمير يلباي المؤيدي هذا الذي تسلطن والأمير يرشباي المؤيدي الأمير آخور الثاني. واستقر تمربغا هذا دوادارًا كبيرًا عوضًا عن دولات باي المذكور وبقي ملك مصر وأموره معذوقًا به والناس تحت أوامره فلم تطل أيامه بعد ذلك ووقعت الفتنة بين الملك المنصور عثمان وبين أتابكه الأشرف إينال وهي الواقعة التي خلع فيها الملك المنصور عثمان وتسلطن من بعده الأشرف إينال. ودام القتال بين الطائفتين من يوم الاثنين إلى يوم الأحد أعني سبعة أيام والقتال عمال بين الطائفتين وكان القائم بحرب إينال بالقلعة هو الملك الظاهر تمربغا مع خجداشيته الظاهرية والمعول عليه فيها مع علمي بمن كان عند الملك المنصور غير تمربغا من أكابر الأمراء مثل تنم من عبد الرزاق أمير سلاح والأمير قانى باى الجاركسي الأمير آخور الكبير ومع هذا كله كان أمر القتال وتحصين القلعة والقيام بقتال الأتابك إينال متعلقًا بالملك الظاهر تمربغا هذا. فلما تسلطن إينال وانتصر أمسك الملك الظاهر تمربغا هذا وسجنه بالإسكندرية أشهرًا ثم نقله إلى حبس الصبيبة بالبلاد الشامية فحبس بالصبيبة أكثر من خمس سنين. وكانت مدة سجنه بإلاسكندرية والصبيبة نحو ست ستين إلى أن أطلقه الملك الأشرف إينال في أواخر سنة اثنتين وستين وأمره أن يتوجه إلى دمشق ليتجهز بها ويتوجه مع موسم الحاج الشامي إلى مكة ويقيم بها. فسار إلى مكة وجاور بها سنة ثلاث وستين وكنت أنا أيضًا مجاورًا بمكة في تلك السنة فتأكدت الصحبة بيني وبينه بها ووقعت لنا محاضرات ومجالسات. ودام هو بمكة إلى أن تسلطن الملك الظاهر خشقدم في سنة خمس وستين وثمانمائة فقدم القاهرة فأجله الملك الظاهر وزاد في تعظيمه وأجلسه فوق جماعة كثيرة من أمراء الألوف الأعيان. ثم أنعم عليه في يوم الاثنين سلخ ذي الحجة من سنة خمس وستين وثمانمائة المذكورة بإمرة مائة وتقدمة ألف عوضًا عن جانبك الأشرفي المشد بحكم القبض عليه وخلع عليه في اليوم المذكور باستقراره رأس نوبة النوب عوضًا عن بيبرس الأشرفي خال الملك العزيز يوسف بحكم القبض عليه أيضًا فدام على ذلك إلى أن أخرج الملك الظاهر خشقدم الأتابك جرباش إلى ثغر دمياط بطالًا واستقر عوضه في الأتابكية الأمير قانم أمير مجلس فنقل الملك الظاهر تمربغا إلى إمرة مجلس عوضًا عن قانم المذكور وذلك في شهر رمضان سنة تسع وستين وثمانمائة فدام على إمرة مجلس إلى أن مات الملك الظاهر خشقدم في عاشر شهر ربيع الأول. وتسلطن الملك الظاهر يلباي فصار الملك الظاهر تمربغا هذا أتابك العساكر عوضًا عن الملك الظاهر يلباي المذكور فعند ذلك تحقق كل أحد أن الأمر يؤول إليه فكان كذلك حسبما تقدم ذكره. ولنعد الآن إلى ما وعدنا بذكره من الحوادث: ولما كان يوم الاثنين تاسع جمادى الأولى أنعم السلطان الملك الظاهر تمربغا على جماعة من الأمراء بعدة وظائف: فاستقر الأمير جانبك قلقسيز أمير مجلس أمير سلاح عوضًا عن قاني بك المحمودي المؤيدي بحكم القبض عليه. واستقر الشهابي أحمد بن العيني الأمير آخور الكبير أمير مجلس عوضًا عن جانبك قلقسيز. واستقر الأمير بردبك هجين الظاهري حاجب الحجاب أمير آخورًا كبيرًا عوضا عن ابن العيني. واستقر الأمير خير بك الظاهري الدوادار الثاني دوادارًا كبيرًا عوضًا عن يشبك الفقيه بحكم القبض عليه وإخراجه إلى القدس الشريف بطالًا. واستقر الأمير كسباي الظاهري أحد أمراء العشرات دوادارًا ثانيًا عوضًا عن خيربك. واستقر الأمير خشكلدي البيسقي رأس نوبة النوب عوضًا عن الأتابك قايتباي. واستقر الأمير قانصوه اليحياوي الظاهري أحد أمراء العشرات ورأس نوبة في نيابة الإسكندرية عوضًا عن كسباي المؤيدي السمين بحكم عزله وتوجهه إلى دمياط بطالًا بعد أن أنعم الملك الظاهر على قانصوه المذكور بإمرة طبلخاناه عوضًا عن طوخ الزردكاش بحكم توجهه إلى دمياط بطالًا. وفي ليلة الثلاثاء عاشره حمل الملك الظاهر يلباي في النيل إلى إسكندرية ليسجن بها ومسفره قانصوه اليحياوي وقد تقدم ذكر ذلك كله في ترجمة الظاهر يلباي. وفي يوم الثلاثاء عاشره فرقت نفقة المماليك السلطانية وهي تمام تفرقة يلباي التي كان أنفق غالبها ولم يتم ولم يفرق الملك الظاهر تمربغا نفقة على المماليك السلطانية لقلة الموجود بالخزانة الشريفة. ورسم الملك تمربغا في هذا اليوم بإعطاء أولاد الناس النفقة الذين هم من جملة المماليك السلطانية وكان الملك الظاهر يلباي منعهم فكثر الدعاء عليه بسبب ذلك حتى خلع وأحوجه الله إلى عشر من أعشارها. فلما أمر الملك الظاهر تمربغا بالنفقة عليهم كثر الدعاء له بذلك. فلم يسلم من واسطة سوء وكلمة الشح مطاعة فتغير بعد ذلك فقرأ بعض أولاد الناس هذه الآية الشريفة: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " - الرعد: 11 - بذل و خشوع وكسر خاطر فلم يفلح بعدها. ولم يقع للظاهر تمربغا في سلطنته ما يعاب عليه إلا هذه القضية فما شاء الله كان. قلت: " واعجباه من رجل يملك تخت ملك مصر ثم تضعف همته من إعطاء مثل هذا النزر اليسير الذي يعوضه الملك العارف المدبر من أي جهة شاء من الجهات الخفية عن العاري الضعيف التدبير وتطلق عليه بعدم الإعطاء ألسنة الخاص والعام وتكثر الشناعة والقالة في حقه بسبب ذلك ولكن العقول تتفاوت ". وفيه أيضًا قدم الأمير أزدمر تمساح إلى القاهرة بعدما أوصل الأمير بردبك الظاهري نائب الشام إلى القدس ليقيم به بطالًا.
|